القَرْآنُ حَافِظُ العَرَبِيَّة
عاصم السيد
قال الرجل الكبير الذي يحبّ اللغة العربية لقوم جلسوا يتدارسونها: “القرآن الكريم علي عيني وعلى رأسي … لكن القرآن الكريم لم يحافظ على اللغة العربية، إنما خصائصها العالية والفريدة ضمنت لها الاستمرار” كنت جالسًا، يمرّ الميكروفون علينا على الترتيب ليدلي كل بتعليق، سمعت الرجل، ثم آخر دعم رأيه بأن القرآن لم يحفظ العربية، مر في ذهني قول عمر بن الخطاب الخالد: “كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام”، وتساءلت عن أولئك المسلمين العرب الذين يرفضون أن يعترفوا بفضل القرآن على العربية، فضلًا عن الفخر بعربيّة القرآن، باصطفاء الله للعربية لتكون لغة المعجزة الخالدة على الأرض.
دوّنت بعض النقاط في دقائق معدودة حتى أتمكن من الرد القطعي بالدليل، من الإجابة على السؤال “ماذا قدّم القرآن للغة العربية؟”، وما أن خطر السؤال بلبّي، ازدحم العقل بعديد الأجوبة.
ما كانت العربية قبل الإسلام؟ كانت لغة جميلة بليغة لا شك، في الشعر الجاهلي تبرز عظيم مزاياها، فهي لغة الجمال والمجاز، تقول الدكتورة نفوسة زكريا سعيد في كتابها “تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر”: “فلما نزل القرآن بلغة قريش، عزز سيادتها وثبّت دعائمها وقوّى سلطانها، فبفضله ازدادت ضبطًا وإحكامًا، واتسعت أغراضها، وارتقت معانيها وأخيلتها وأساليبها، وبفضله ظلت لغة الأدب والكتابة حتى يومنا هذا، وصار القرآن هو الحافظ لها من الضياع، وهي معجزة لم تتفق لغيرها من اللغات، وستظل باقية على سيادتها ما بقي القرآن، والقرآن باقٍ لقوله تعالى: “إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون”
كانت العربية لغة العرب، لغة أهل الجزيرة وحدهم، لغة سكان الصحراء، وجاء القرآن فمنح لغة الضاد العالمية، وتحولت من لغة أدب محصورة في بادية العرب، إلى لغة علم وأدب تجوب العالم أجمع باديةً وحَضَرًا. من ينكر فضل سيبويه على اللغة العربية؟! إمام النحاة، العالم الذي وضع كتابه الأشهر “الكتاب” في النحو والصرف والصوتيّات، يقول أبو طاهر المقرئ في كتابه “أخبار النحويين”: “وكان كتاب سيبويه لشهرته وفضله عَلَماً عند النحويين، فكان يُقال بالبصرة: قرأ فلان الكتاب، فيُعلم أنه كتاب سيبويه، وقرأت نصف الكتاب، ولا يُشك أنه في كتاب سيبويه، وكان المازني يقول: “من أراد أن يعمل كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي.”
ويذكر لنا كذلك ابن كثير في البداية والنهاية: “سيبويه إمام النحاة، واسمه: عمرو بن عثمان بن قنبر، أبو بشر، وقد كان في ابتداء أمره يصحب أهل الحديث والفقهاء، وكان يستملي على حماد بن سلمة، فَلَحَنَ يوماً، فرد عليه قوله، فأنِفَ من ذلك، فَلِزَمَ الخليل بن أحمد فَبَرَعَ في النحو، وقد صنَّف في النحو كتاباً لا يُلْحق شأوُه، وشَرَحُه أئمة النُّحاة بعده فانغمروا في لُجَج بَحْره، واسْتَخْرجوا من دُرَرِه، ولمْ يَبْلغوا إلى قَعْره.”
إن سيبويه كان فارسيًّا، فهل كان لسيبويه أن يتعلم العربية لولا الإسلام؟ لولا القرآن العربي؟ لولا النبي العربي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام؟ هذا فضل من أفضال القرآن على العربية، وقس على ذلك علماء المسلمين في كل العلوم القائمة على اللغة العربية من تفسير وحديث وفقه وغيرها، ولنا أن نذكر أسماء لا تُحصى لعلماء مسلمين، من غير العرب، تعلموا العربية ونبغوا فيها، فوضعوا قواعدها وأسسوا علومها، مثل الطبري والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. ولم ينبغ المسلمون ويضعوا القواعد والمؤلفات العربية الخالدة في العلوم الشرعية والإنسانية وحسب، بل كذلك في العلوم التطبيقية من طب وفيزياء ورياضيات، منهم ابن سينا وأبو بكر الرازي والخوارزمي والبيروني والفارابي وغيرهم، علماء لا تتسع صفحات لذكرهم، وذكر آثارهم، وأثرهم العظيم فيما وصلت إليه علوم البشرية اليوم. إن القرآن العربي المبين هو صاحب الفضل إذ صارت العربية أداة عالمية من أدوات المنطق الإنساني، وخرج تحت مظلتها العلماء الموسوعيون الذين جمعوا بين العلوم الإنسانية والتطبيقية، وصارت لغة علم إلى جانب كونها لغة أدب، فنفعت العالم أجمع، وكانت أساس تقدّمه العلمي الأول.
وليس ذاك فحسب حفظ القرآن للعربية، إن كل مسلم يؤمن بالله الأحد الفرد الصمد، وبأن الكمال لله وحده، ويؤمن بأن القرآن كلام الله الخالد إلى يوم الدين، فلغة القرآن هي العربية في كمالها، هي العربية في قمة جمالها وبلاغتها وبيانها، وبلغة القرآن يستشهد اللُغويون، وهذه ميزة قدسية تنفرد بها العربية دون سواها، فإلام يرجع علماء اللغات الأخرى في وضع قواعد لغاتهم؟ نعم، نعيش في عصر غفل فيه مسلمون عن هُويتهم، فضاعت تلك العزة التي تحدث عنها الفاروق: “كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام”
وأهملوا لغة القرآن فتراجعوا في العلم والأدب، لكن مازال بينهم عقول واعية، وهمم صاعدة، وقلوب فاعلة، ونفوس عزيزة بالإسلام، وألسنة تنطق العربية بطلاقة، وهؤلاء سيوقظون عما قريب إخوانهم، فالإسلام باقٍ بأمر الله، ودين الله ظاهر على الدين كله، يقول –تعالى- في سورة التوبة: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33}”
واللغة العربية خالدة بإذن الله بخلود القرآن، الذي ينطق به في العالم أكثر من مليار وستمئة مليون مسلم، لذاك سيبقى القرآن حافظ العربية، وأترك ختام الحديث لشيخ العربية محمود محمد شاكر إذ يقول في كتابه الرائع أباطيل وأسمار:
“أما شبهة “اللغة الدينية” فإن الداعي إليها، إن صحّ ما أقول، هو أن الدعاة والمبشرين والمستعمرين، لما دخلوا بلاد الإسلام في إفريقية والهند وغيرهما، ورأوا الطفل الصغير والجارية والغلام، كلهم يحفظ القرآن عن ظهر قلب، ويتلوه في صلاته خاشعًا باكيًا، ورأوا أن بعضهم لا يعرف العربية إلا ما يحفظ من القرآن، ولا يُحسن أن يقرأ شيئًا بالعربية إلا القرآن، ظنوا أن ذلك كذلك، لأن اللغة العربية “لغة دينية” ! وهذا ظن سخيف جدًّا عندنا بالطبع. وذلك لأن كل مسلم، عربيًّا كان أو غير عربي، يعلم علمًا يقينيًّا أن القرآن كلام الله، وأن مجرد تلاوته عبادة يُثاب المرء عليها، وحفظه عبادة أخرى، وفهمه عبادة ثالثة، والتفقه في معانيه عبادة رابعة، والنظر في كتابته عبادة خامسة، ولكل شيء من هذه العبادات ثواب، فضلًا عن أنه كلام الله الذي يفارق كلام البشر من كل وجه، وهو من الله وإليه، يتعبّد المسلم بأن يستودعه صدره، لأنه كلام من ربه. وعلى المسلم بعد ذلك أن يتعلم إن استطاع لغة القرآن، ليفهمه ويتفقه فيه، وذلك خير ما يفعل، وإلا اقتصر إذا لم يستطع على معرفة دينه بلسانه هو، ودينه هو ما يتضمنه القرآن و الحديث، مما يشمل كل صغيرة وكبيرة في حياته الخاصة أحيانًا، وفي حياته العامة أحيانًا أخرى، وعلى الوجه الذي أسلفنا بيانه. وهذا كافٍ في الدلالة على أن اللغة الفصحى، أو اللغة العربية، ليست “لغة دينية”، بالمعنى الذي تُعدُّ به “اللاتينية” مثلًا “لغة دينية” .