اعتراضٌ في ورشة دوبلاج يُشعل السؤال
“خاطبوا الناس على قدر عقولهم” هكذا قالت قالت إحدى المتدربات في ورشة عنادل للتعليق الصوتي والدوبلاج ونحن نعرض نموذجًا إعلانيًا لإحدى منتجات (هارديز)، والاعتراض كان على لغة الإعلان ذي الأربعين ثانية إذ كانت العربية الفصيحة، الاعتراض على إعلان هارديز عن “التشيز كيك” اللذيذة مع “البسكويت” المفتت!، ورغم مرور أكثر من يوم على الحادثة ظلت الجملة تشغل تفكيري، هل اللغة العربية فوق قدر العقول؟
اللغة لا تعلو على العقول، بل العقول هي التي سقطت!
“خاطِبوا الناس على قدر عقولهم”… هل هو حديثٌ صحيح؟
الفصاحة تعني الوضوح، فمتى صار الوضوح غموضًا؟!
يعني أن نقاش الطبيب مع مريضه فيما أصابه من سقم أبسط من نقاش الطبيب مع زميل له في نفس الموضوع، وليس القصد دعوة إلى الجهل، وليس القصد على الإطلاق أن تتحدث العامية بدل الفصيحة، بل نقول إن من يستخدم لغة عربية غريبة فقد فقدت لغته صفة الفصاحة، فالفصاحة في المعجم تعني الوضوح، فليت شعري كيف صار وصف اللغة بالفصيحة يعني الإبهام في هذا العصر العجيب الذي نعيش فيه؟!
أمّةٌ لا تتقن لغتها: أية هُوِيّة تَبقى لها؟!
ما معنى إتقان اللغة؟
أي أمة في الدنيا تلك التي لا يتقن مواطنوها لغتهم الأم! وإتقان اللغة يعني أن تفهمها إذا سمعتها، وأن تستطيع التحدث بها، وأن تقرأها وتكتب بها، عيب والله أشد العيب أن لا يستطيع العرب أن يتحدثوا جملة عربية صحيحة!!
العاميّة ظاهرة لغوية، لا مشكلة. المشكلة في احتقار الفُصحى!
في مقالات سابقة قلنا مرارًا وتكرارًا أن العامية ظاهرة في كل اللغات لا عند العرب وحدهم، لكن المشكلة أننا نحط من قدر لغتنا ونود لو نحذفها من الوجود حذفًا.
هل اختار الله للعالمين لغةً فوق قدر العقول؟!
لغة القرآن ليست لغزًا، بل نورٌ مبين
الله اختار العربية لغة القرآن الكريم، وهو كلام الله المحفوظ الخالد، فأنّى لربّ العزة جلّ علاه أن يختار لمعجزته الخالدة على الأرض لغة ليست على قدر عقول عباده؟! والله محاسبنا عما أمرنا به وعما نهانا عنه في كتابه الكريم، ومحاسبنا عما وصل إلينا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر ونهي، أفنقول لربنا ساعة الحساب أنه اختار للقرآن ولخاتم الأنبياء لغة ليست على قدر عقولنا؟!
حين يُهاجم الأبناء لغتهم الأمّ!
وإني أعجب كل يوم لأمة يتولى أبناؤها مهاجمة لغتهم الأم؟! ماذا بقي للعدو إن كان الابن والابنة عاقيّن أشد العقوق،؟! لكنهما جهازا هدم الإنسان من أوصلانا إلى هذا القاع، التعليم الذي صار تجهيلًا، والإعلام الذي تحول إلى أداة قمع وجمع مال، ومازالا يهبطان بنا دركةً دركة، والمفروض أن يرفعا الإنسان بناءً عاليًا، فيكون الإنسان مثقّفًا مفكّرًا، أما ما نحن عليه الآن إنما ينتج إنسانًا خائفًا وجاهلًا، والجهل ليس فحسب عدم المعرفة، بل الأدهى من ذلك المعرفة الخطأ، والوجدان الفاسد، الذي لديه يصير القيدُ حريةً، والكذبُ حقيقةً، والظلمُ عدلًا.
“ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته، وإنما جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فلم يعد يحزن لفقد تلك الحرية ولا يذرف دمعة واحدة عليها”.
أبو تمام، والعميثل، وضياع الفهم
لا تقل: لمَ لا تقول ما يُفهم؟ بل: لمَ لا تفهم ما يُقال؟
حتى العاميّة أُفسدت!
ربعيّ بن عامر… فخرُ الهُويَّة في بلاط الأعاجم
ويذكر لنا ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” قصة الصحابي الجليل ربعيّ بن عامر – رضي الله عنه – الذي أرسله سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه– رسولًا في القادسية إلى ملك الفرس رستم، فما أبهرته السجاجيد المزخرفة، ولا الملابس المذهّبة، وهو يرتدي بسيط الملابس، فخورًا بهوّيته، ووقع ذلك من رستم موقع الاحترام والتقدير وهو الخصم، وإنها العزة والله أن تنال احترام خصومك، يقول ابن كثير: “ثم بعث إليه سعد رسولاً آخر بطلبه، وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت، واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه.
العزّة لا تُقاس بالزينة، بل بالكلمة
– فقالوا له: ضع سلاحك.
– فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
– فقال رستم: ائذنوا له
– فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها.
– فقالوا له: ما جاء بكم؟
– فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله.
– قالوا: وما موعود الله؟
– قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.
– فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟
– قال: نعم! كم أحب إليكم؟ يوماً أو يومين؟
– قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا رؤساء قومنا.
– فقال: ما سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.
– فقال: أسيدهم أنت؟
– قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم.
احترمه الخصم لأنه اعتزّ بهُويّته
– فاجتمع رستم برؤساء قومه فقال: هل رأيتم قط أعزّ وأرجحَ من كلام هذا الرجل؟
– فقالوا: معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا، تدع دينك إلى هذا الكلب أما ترى إلى ثيابه؟
– فقال: ويلكم لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي، والكلام والسيرة، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل، ويصونون الأحساب.”
الفصاحة ليست عيبًا، بل شرفٌ وكرامة
لا تَخاطبوا الناس بلغة المهرجانات!
“خاطبوا الناس على قدر عقولهم” ليست تعني أن يتحدث الخطيب إلى المصلّين بلغة محمود الليثي، ولا بلغة المهرجانات، ليست تعني أن ينقر المعلّم على طبلة ليحفظ التلاميذ قواعد النحو راقصين مع أستاذهم، أين سنهبط بعد ذلك؟! ابنوا العقول أوّلًا بالتعليم ثم الإعلام، ثم خاطبوها على قدرها العالي من الثقافة والاعتزاز بالهويّة، لكن أنّى يقتنع الجاهلون، وقد قالوا قديمًا: “إذا أردت أن تُفحمَ عالمًا، أحضره جاهلًا!”