هل خدمَت أمُّ كُلثوم اللغةَ العربيّة أكثر من سيبويه؟!
حكى لي صديقٌ دَرْعَميٌّ أنّ أستاذًا سأل طلابه ذات يومٍ قائلًا: من تظنّون قد خدم العربيّة أكثر؟ فتسابقوا في ذكر أعلام اللغة: أبو الأسود الدؤلي، والخليل، وسيبويه، وابن منظور… فابتسم الأستاذ وقال: بل أمُّ كُلثوم!
وهنا مكمنُ الحكمة، فإنَّ اللغة – كما قال ابنُ جنّي (ت 392 هـ) –:
“أصواتٌ يُعبَّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم”
وهذه الأصوات تُكتسَب بالاستماع والمخالطة، لا بالشرح والتلقين فقط.
الطربُ الفصيح… مدرسةٌ خفيَّة
غنَّت أمُّ كُلثوم أكثرَ من سبعين قصيدةً فصيحة، لثلاثين شاعرًا، من مختلف العصور والبلدان. فتراها تُنشد شعرًا قديمًا لبكر بن النطّاح (ت 192هـ)، وأبي فراس الحمداني (ت 357هـ)، والشريف الرضي (ت 406هـ)، وصفيّ الدين الحِلّي (ت 750هـ)… ثم تُحلِّق في فضاءات العصر الحديث مع أحمد رامي، وشوقي، وحافظ، وناجي، وعلي الجارم، وكامل الشناوي، وطاهر أبو فاشا.
وكان صوتُها جسرًا بين الأمم، فغنَّت لعمر الخيّام الفارسيِّ، ولمحمَّد إقبال الباكستاني، وللهادي آدم من السودان، وجورج جرداق من لبنان، وعلي أحمد باكثير من اليمن، ونزار قباني من الشام، وأحمد العدواني من الكويت، والأمير عبد الله الفيصل من المملكة العربيّة السعوديّة.
تأثير أم كلثوم في الذائقة العامَّة
لو جُبنا الشوارع نسأل عن “الهادي آدم”، لجهله معظم الناس، لكن إن قلنا “أغدًا ألقاك؟”، لأجابوا فورًا: تلك التي غنَّتها أمُّ كُلثوم!
لقد سكن صوتها في الوجدان العربيِّ، وسَرَت لغتُها الفصيحة في الآذان والقلوب، حتى صار العربيُّ البسيط ينطق بجملةٍ فصيحةٍ، أو بيتٍ موزونٍ، من غير أن يُدرِك أنَّه يُمارس العربيّة كما ينبغي.
اللغةُ استماعٌ قبلَ القواعد
سُئل أعرابيٌّ عن فصاحته في النحو، فقال:
ولستُ بنحويٍّ يلوكُ لسانَهُ *** ولكنْ سليقِيٌّ أقولُ فأُعْرِبُ
إنّما تعلَّم العربيُّ النحو بفطرته، لأنَّه نشأ يسمع اللغة، لا يقرؤها في الكتب. وهكذا كانت أمُّ كُلثوم، تُشيع الجملة الفصيحة في كل بيت، فتسمعها الآذان، وتحفظها الذاكرة، وتنساب إلى الحديث اليوميّ بلا تكلُّف.
عصاميّون تعلَّموا العربيَّة من محيطهم
تحكي لنا د. نفوسة زكريا في كتابها “تاريخ الدعوة إلى العاميّة وآثارها في مصر” عن أدباءَ نشؤوا في بيئات شعبيَّة، لم يتعلَّموا العربيَّة على مقاعد المدارس، بل تعلَّموها من القراءة، والسمع، والمخالطة.
منهم: عبد المعطي المسيري، العامل في مقهًى بدمنهور، ألَّف كتاب “في القهوة والأدب” سنة 1936م، وأحمد عرفة، الحلاق الإسكندراني، كتب ديوان “ظلال حزينة” سنة 1953م، والشاعر عبد العليم القبّاني، وكان خيّاطًا، وله قصائد كثيرة نُشرت بالإذاعة ونالت جوائز.
هؤلاء جميعًا لم يطلبوا النحو، لكنَّهم نشؤوا في بيئة تسمع العربيّة الفصيحة، فأتقنوها. وما صوتُ أمِّ كلثوم إلّا أحد منابع تلك البيئة الصافية.
أمُّ كلثوم… معلمةُ العربيّة بصوتها!
فليست العربيةُ حكرًا على من قرأ “الكتاب”، ولا على من تتلمذ على يد النحويّين، بل هي لمن عاشها، وسمعها، وتذوَّق جمالها. وأمُّ كلثوم كانت بحقّ معلّمةً من نوعٍ آخر، تبثُّ العربيّة الفصيحة من المذياع إلى كل بيت، فيسمعها الطفل في المهد، والعجوز في المساء، والعاشق في خلجات الشوق.
هكذا تخدُم الفنون لغتها، حين تُصاغ بأفصح الكلمات، وتُؤدّى بأجمل الألحان.