لغتنا العربية لغة الأصوات والنغم

لغتنا العربية لغة الأصوات والنغم

قد أحسن أبي حفظه الله اختيار اسم “عنادل” جمع عندليب فهو طائر حسن الصوت متنوع الألحان، يغني ليلًا لِيُسمع حتى إنه سُمِّي بالإنجليزية Nightengale وهو رمز جمال عند الأدباء والشعراء، ما ألصق اسم العنادل بالأصوات والنغم! فما الذي يجعل العربية لغة موسيقية التكوين دون غيرها؟ وما سر هذا النغم الذي يملأ لساننا العربي نثرًا وشعرًا؟

علماؤنا العباقرة واهتمامهم بالأصوات اللغوية

لقد سبق علماء لغتنا العربية في دراسة الأصوات، بداية من العباقرة أبي الأسود الدؤلي الفراهيدي وسيبويه، وتلاهم الفذُّ ابن جني

«فأضاف ما أضاف، وعمَّق وفصَّل وشرح وفسَّر، إلى أن تكاملت أعماله في هذا المضمار، وعُدَّت دراسة علمية ترشح نفسها لأن تكون علمًا له كيان، أسسه الرجل وحدد جوانبه… سماه هو بعبقريته الفذة “علم الأصوات والنغم”» (علم الأصوات، كمال بشر، ٢٥)

وما أعجب هذا العنوان الذي ربط أصوات العربية بالنَّغم! وفي لسان العرب:

«النَّغْمةُ: جَرْسُ الْكَلِمَةِ وحُسْن الصَّوْتِ فِي الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ حسَنُ النَّغْمَةِ»[1] (لسان العرب، ابن منظور، ١٢/ ٥٩٠)

أتفهم الإبل الشعر؟

دَرَسْنا في كتاب دلائل الإعجاز قولَ الشاعر:

فغَنِّها وهْي لك الفداءُ ** إنَّ غِناء الإبِلِ الحُداءُ      

«حدا الإبلَ/ حدا بالإبل: ساقَها وهو يغنِّي لها؛ ليحثَّها على السّير» ( معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عمر، ١/ ٤٦٠)

وتساءَل شيخنا د. محمد أبو موسى -رضي الله عنه- أستاذ البلاغة في الأزهر الشريف: ليت شعري! أتفهم الإبل الحداء والشعر؟ لو نطق بعير لسألته! إنَّ الله فطر الإبل على حبَّ النغم.

وفي فطرة الإنسان حبُّ النَّغَم والطَّرب له، ألا ترى أنَّ الله اصطفى من اللغات العربيةَ لسانًا لقرآنه العظيم، إنَّ فيها جرسًا ليس في غيرها، وكل ما تنماز به لغتنا العربية من خصائص الكمال الصوتي والتركيبي والموسيقي، إنما هَيَّأَه لها ربنا عز وجل، من يدرسْ هذه اللغةَ يرَ في أثنائها ونظامها آياتٍ واضحةً جليةً تنادي بأنَّ وراءها خالقًا عظيمًا.

اللغة الشاعرة

ولعلَّ العقاد -رحمه الله- أدرك حقيقة موسيقية لغتنا إذ سمّاها اللغةَ الشّاعرة:

«إنما نريد باللغة الشاعرة أنها لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء» (اللغة الشاعرة، عباس العقاد، ١١)

«وأبلغ من كل ما تقدم في الإبانة عن معدن اللغة العربية، وعن هذه الخاصة الفنية فيها أن أوزانها تتفق في كل ترتيل فصيح، ولو لم يكن شعرًا مقصودًا كما اتفقت في الآيات الكثيرة من القرآن الكريم، وينبغي أن يؤمن المسلم وغير المسلم بأن القرآن الكريم لم يكن شعرًا، وما هو بقول شاعر كما جاء فيه، وكما جاء في كلام الرسول الذي أوحي إليه:
فمما يوافق وزن البحر الطويل فيه: ﴿‌فَمَنْ ‌شَاءَ ‌فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]
ومما يوافق وزن البحر الخفيف: ﴿‌إِنَّ ‌قَارُونَ ‌كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى﴾ [القصص: 76]
ومما يوافق وزن البحر البسيط: ﴿‌فَأَصْبَحُوا ‌لَا ‌يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف: 25]
ومما يوافق وزن البحر الكامل: ﴿‌صَلُّوا ‌عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]» (اللغة الشاعرة، عباس العقاد، ٢٣-٢٤)

رسولنا الكريم ﷺ يتذوَّق حُسْنَ النَّغَم

ورسولنا الكريم ﷺ أفصح الناطقين بلساننا العربي، كان يتذوَّق حُسْنَ النَّغَم في تلاوة أصحابه، إذ روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:

«استَمَع رسولُ اللهِ ﷺ  قراءتي مِن اللَّيلِ فلمَّا أصبَحْتُ قال :  (يا أبا موسى استمَعْتُ قراءتَكَ اللَّيلةَ لقد أُوتِيتَ مِزمارًا مِن مَزاميرِ آلِ داودَ) قُلْتُ : يا رسولَ اللهِ لو علِمْتُ مكانَك لَحبَّرْتُ لك تحبيرًا» (صحيح ابن حبان الصفحة أو الرقم : ٧١٩٧)

أي لزدته تحسينًا وتزيينًا، وتأمل الصورة التي رسمها نبينا الكريم إذْ

«شَبَّهَ حُسْنَ صوتِه وحلاوةَ نَغْمَتِه بِصَوْتِ المِزْمارِ، وَدَاوُدُ هُوَ النَّبِيُّ، ﷺ ، وإِليه المُنْتَهى فِي حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ» (لسان العرب، ابن منظور، ٤/ ٣٢٧)

ومن صحابته ﷺ الشعراءُ المجاهدون الذين نافحوا بشعرهم عن الإسلام ودعوته، حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم، وروى البراء بن عازب:

«لمَّا كانَ يَوْمُ الأحْزَابِ، وخَنْدَقَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ ، رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِن تُرَابِ الخَنْدَقِ، حتَّى وارَى عَنِّي الغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ، وكانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ وهو يَنْقُلُ مِنَ التُّرَابِ يقولُ: اللَّهُمَّ لَوْلَا أنْتَ ما اهْتَدَيْنَا … ولَا تَصَدَّقْنَا ولَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا … وثَبِّتِ الأقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا إنَّ الأُلَى قدْ بَغَوْا عَلَيْنَا … وإنْ أرَادُوا فِتْنَةً أبيْنَا قَالَ: ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بآخِرِهَا»  (صحيح البخاري الصفحة أو الرقم : ٤١٠٦)

إنَّ رسولنا يطرب بالشعر وينشده منَغَّمًا نغَم الحماسةَ والقوة والإيمان، وهو القائد يعمل بيده الشريفة وسط صحابته الكرام، وكأني أسمعهم يضمون أصواتهم إلى صوته السريِّ.

حبُّ النَّغم فِطْرة

و«الغِنَاءُ مِنَ الصَّوتِ: مَا طُرِّبَ بِهِ، وَقَدْ ‌غَنَّى بِالشِّعْرِ وتَغَنَّى بِهِ، قَالَ:
تَغَنَّ بالشِّعْرِ، إِمّا كنتَ قائِلَهُ … إِنَّ ‌الغِناءَ بِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمارُ» (لسان العرب، ابن منظور ١٥/ ١٣٩)

وهو يُنسب لحسان بن ثابت -رضي الله عنه-، وقد سُمِّي صوت بناتُ الهديلِ غناءً

«وغَنَّى الحمامُ وتَغنَّى: صَوّت» (لسان العرب، ابن منظور ١٥/ ١٠٤٠)

والناطق بالعربية الذي فُطِرَ على حب النغم، ونشأ تروي لغتنا الجميلة فكره وعاطفته، يتذوق النَّغَم الحسن في كل صوت نَدِي شجِيٍّ، اسمع لأبي تمام يصف مغنِّيةً فارسيةً يلهب كبده شجو صوتها، ولا يفهم معاني كلامها:

ومُسْمِعَةٍ تَقُوتُ السَّمْعَ حُسْنًا ** وَلَمْ تُصْمِمْهُ لَا يُصَمْم صَداهَا
مَرَتْ أَوْتَارَهَا فَشَجَتْ وَشَاقَتْ ** فَلَوْ يَسْطيعُ سَامِعُهَا فَدَاهَا
وَلَمْ أَفْهَمْ مَعانِيَهَا ‌وَلكِنْ ** ‌وَرَت ‌كَبِدِي فَلمْ أَجْهَلْ شَجَاهَا
فَبِتُّ كأنَّنِي أَعْمَى مُعَنًّى ** يُحِبُّ الغَانِيَاتِ وَمَا يَرَاهَا

أمُّ كلثوم رسّامة ريشتُها صوتُها

ويصف أحمد رامي أم كلثوم وصوتها يرسم المعاني صورًا بغير ريشة

تبعث الشجو في النفوس وتلقي ** سحرها في القلوب والآذان
ترسل الشعر منطقا عربيا ** بيِّنَ الآي واضح التبيان
تتناغى الألفاظ فيه من النطق ** سليما وتستبين المعاني
فإذا صورة تجلت إلى العين ** وغابت في مستقر الجنان

الأمُّ العربية تُغنّي لأطفالها

كانت الأم العربية تغنّي لأولادها

و«تمهد طفلها لما هو أهل له من عظمة الحياة؛ فتَجْهَد ألا يصدَع سمعَه شيءٌ من دنيّ الألفاظ ورَذْلها، بل تُردِّد له في إرضاعه ومداعبته ألفاظ الشرف والسؤدد؛ وتلقنه آيات المجد والكرم، وللنساء في سبيل ذلك ما لا يناله العد من الأناشيد القصار؛ يُغَنَّين بها أولادهن ويُرَقِّصْنَهُمْ بها؛ وفيها من غُرِّ المكارم؛ وحُرِّ العظائم؛ ما هو خليق بأشبال أولئك الأبطال» (المرأة العربية في جاهليتها وإسلامها، عبد الله العفيفي، ١/ ٧٢)

ويُروَى أن أمَّ عَقيلِ بنِ أبي طالبٍ كانت تُرقِّصُ ابنها عَقيلًا وهي تغنِّي له:

‌أنتَ تَكونُ ‌ماجدٌ ‌نبيلُ ** إذا تهبُّ شَمْأَلٌ بَليلُ
تُعْطِي رجالَ الحَيِّ أو تُنيلُ

والمعنى: أنت السيد الكريم الشريف، الذي يُلجأ إليه في الصعاب، إذا هبت رياح الشمال الباردة البليلة، تؤوي الضّيفان وتَقريهم وتكرمهم.

وعجيب أن تسمع من بعض أمهات اليوم، إن ابني خائب، أتظنه سيكبر ليغدوَ عالمًا! لن يكون إلا مُخْفقًا!

قد صدق شاعر النيل إذ يقول:

الأُمُّ مَدرَسةٌ إِذا أَعدَدتَها ** أَعدَدتَ شعباً طَيِّبَ الأَعراقِ
الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا ** بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى ** شغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ

فما أحوجَ آذان أبنائنا اليومَ إلى جميل الألحانِ والأنغام وعالي الأشعار والكلام! يُشنِّف الغضَّ مِن الآذان، وينفض عنها كلَّ قبيحٍ ملأ هذا الزمان.

عنادل تشدو بأشعار أحمد شوقي وكامل كيلاني

تعرَّفتُ إلى الأستاذة علا نصري منذ ما يزيد على عامٍ متدربةً لدى عنادل، تنمي مهاراتها اللغوية وتصقل مهارات الأداء الصوتي، وما لبث أن طرق صوتها الجميل آذاني، وقد عبَّرت عن شغفٍ صادقٍ بأن تغنِّيَ للأطفال، فانطلقنا معًا في نزهة في حدائق أمير الشعراء شوقي وبساتين كامل كيلاني الشعرية التي أعدوها للأطفال، وفي حماسة حوَّلت الأستاذة علا تفعيلات الأوزان الشعرية ألحانًا عذبة، ومرَّت الشهور والأستاذة علا تظهر حرصًا على إتقان النطق السليم لحنًا ونغمًا، وعرَّفتني إلى الموزِّع المبدع الأستاذ جورج جبارة، وأستاذ الموسيقى طوني البايع، وتعاونّا وكل منَّا في بلدٍ، تفصل بيننا البحار والجبال، يجمعنا نغم العربية الجميل، وأشعار الأمير شوقي التي نريد أن نقدمها لطفلنا في أبهى حُلَّة، وبعد أشهر من العمل، توجَّهت الأستاذة علا إلى الأستديو تسجِّل، تلا ذلك معالجة التسجيلات صوتيًّا، وأوجه الشكر لمهندس الصوت محمد عبد الغفار، ثم جاء دور الأستاذ حمدي الزيات الذي ترجم الألحان مع فريقه صورةً خلابة، فشاهدوا العنادل يشدون بجميل العربية، يُزَيِّنون آذان أطفالنا بأغنيات رائقة.

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *