أم كلثوم التي نشرت العربية

أمُّ كُلْثُوم التي نشرت العربيّة

عاصم السيد

حكى لي صديق دَرْعَميٌّ أن أستاذًا لديهم سألهم عمَّن يظنّون قد خدم العربية أكثر، فتسابق الطلاب بذكر علماء اللغة أمثال أبي الأسود الدؤلي والفراهيدي وسيبويه وابن منظور وغيرهم، فابتسم الأستاذ قائلًا: بل أم كُلْثوم! يقول العالم اللغوي ابن جني (392 هـ): ” اللغة أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم” والأصوات لدى الإنسان تُتعلّم بالاستماع والتحدّث، لقد غنّت أم كلثوم على مدى مشوارها الفنّي الحافل أكثر من 70 قصيدة فصيحة، لقرابة 30 شاعرٍ، من مختلف البلدان والعصور

غنّت من الشعر القديم لبكر بن النطاح ( 192 هـ)، ولأبي فراس الحمداني (320-357هـ)، والشريف الرضي (406-359هـ)، وصفي الدين الحلي (675-750هـ) وشدت بكلمات الشعر الحديث في قصائد عديدة، كان لأحمد رامي شاعر الشباب، وشاعر أم كلثوم الأول نصيب الأسد منها، شدت بكلمات أمير الشعر شوقي، وشاعر النيل حافظ، والطبيب إبراهيم ناجي، وعلي الجارم، وكامل الشناوي، وطاهر أبو فاشا غيرهم. وصدحت بكلمات شعراء مسلمين، كعمر الخيَّام العالم الفارسي، وومُحَمَّد إقبال الفيلسوف الباكستاني. دارت كلمات الشعراء العرب في فلك كوكب الشرق، فغنّت للهادي آدم من السودان، ولجورج جرداق من لبنان، ولعلي أحمد باكثير من اليمن، ولنزار قباني من سوريا، ولأحمد العدواني من الكويت، وللأمير عبد الله الفيصل من السعودية. إذا جبنا الشوارع نسأل عن الهادي آدم، لن يعرفه من الناس إلا القليل القليل، وإن سألناهم إن كانوا يعرفون “أغدًا ألقاك” سيجيبون بتلقائية: تلك التي تغنيها أم كُلثوم. سُئل أعرابيٌّ عن إتقانه للنحو في حديثه فقال: ولست بنحْوِيٍّ يلوكُ لسانَه *** ولكنِّي سليقيٌّ أقولُ فأعْرِبُ ذلك العربي يتقن العربية لأنه نشأ يسمعها، لا يفكر في كون الفاعل مرفوعًا والمفعول منصوبًا، لكنها الفطرة تحدو كلماته الفصيحة، وهكذا كان صوت أم كُلثوم، نشأ الناس يسمعون الكلمة الفصيحة بصوتها الغرّيد، فاتزنت ألسنتهم، ورقّت طبائعهم، وسمت أذواقهم، نصيبهم من العربية الفصيحة الجميلة في حياتهم اليومية، أغنية لكوكب الشرق، ومرافعة محامٍ بليغ، وخطبة خطيب جمعة مُفوّه، وبرنامج مذيع يتقن العربية. وتحكي لنا د. نفوسة زكريا في كتابها “تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر” عن “الأدباء الذين نبغوا من العامّة، ونشؤوا في في أوساط شعبية، وكانت نشأتهم في الأدب نشأة عصامية، ولم يدرسوا العربية دراسة منظَّمة، وإنما اعتمدوا في دراستها على مطالعتهم الشخصية، صاروا يكتبون وينظمون باللغة العربية الفصحى، أذكر منهم عبد المعطي المسيري مؤلف كتاب (في القهوة والأدب) 1936م، وهو عاملٌ في مقهىً بدمنهور، وأحمد محمد عرفة مؤلف ديوان (ظلال حزينة) م1953، وهو حلاق بمدينة الإسكندرية، والشاعر عبد العليم القباني، وكان يعمل طرزيًّا حتى سنة 1956م، وله مجموعة كبيرة من القصائد، نُشر بعضها بطريق المجلات والإذاعة، وتقدّم ببعضها في مسابقات شعرية حظيَ فيها بجوائز مختلفة”