فهم النص: البداية الحقيقية للمؤدي
إنّ الأداءَ الصوتيّ فنٌّ له معارفُ وعلومٌ لا بدّ من درسِها، ومهاراتٌ لا بدّ من إتقانِها. ويظنُّ كثيرٌ من الناس أنَّ مهمّةَ فنانِ الأداءِ الصوتي تبدأ لحظةَ دخوله الاستديو ووقوفه أمام المايكروفون ليسجّل، وهذا ظنٌّ يبخس هذا الفنَّ قدرَه؛ فإنَّ المهمّةَ الحقيقيةَ تبدأ منذ أن يقعَ النصُّ بين يديه، فيُعمِل فكرَه فيه، ويفهمه فهمًا عميقًا.
يقول عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ في مقدّمة أسرار البلاغة:
“فإذا رأيتَ البصيرَ بجواهرِ الكلامِ يستحسنُ شعرًا أو يستجيدُ نثرًا، ثمّ يجعلُ الثناءَ عليه من حيثُ اللّفظِ فيقول: حُلْوٌ رشيق، وحَسَنٌ أَنيقٌ، وعذبٌ سائغٌ، وخَلُوبٌ رائعٌ، فاعلَمْ أنَّه ليس يُنبئُك عن أحوالٍ ترجعُ إلى أجراسِ الحروفِ، بل إلى أمرٍ يقعُ في فؤاده، وفضلٍ يقتدحُه العقلُ من زِنادِه.”
الإحساس بالمؤلف قبل الأداء
إنّ سرَّ الجمالِ في النصوصِ لا يكمُن في الكلماتِ فحسب، بل في المشاعرِ التي حرّكَت قلبَ الكاتبِ، وفي الأفكارِ التي اشتعلت في عقلِه. وفنّانُ الأداءِ الصوتي لا يقرأُ النصَّ كما يقرؤه طالبُ علمٍ أو مُتذوِّقُ أدبٍ، بل يقرؤه ليعرفَ كيف كان الكاتبُ يشعرُ، وكيف كان يفكّر.
ثم يستخدم أدواتِ الصوتِ ليترجمَ تلك المشاعرَ والأفكارَ إلى نغماتٍ تُسمَع لا بالأذُنِ فقط، بل بالقلبِ كذلك.
الصوت أداة تعبير لا تقل بلاغةً
يقول عبد الوارث عسر –رحمه الله– في كتابه فن الإلقاء:
“قد يكونُ صوتُ الإنسانِ أهمَّ وسائلِ التعبيرِ عمّا في النفس، رغم أنَّ العينينِ والملامحَ والإشارةَ والحركةَ وسائلُ لا تقلّ بلاغةً عند الممثّلِ، متى اجتمعت له الفطرةُ الفائقةُ والعلمُ الكامل.”
هنا نُدرك أنَّ الصوتَ أداةٌ نافذةٌ إلى وجدانِ المستمعِ، إذا ما استُخدِمَت بصدقٍ وفنّ.
أكثر من مجرد إعلان!
عندما أحدِّث العوامَّ عن فنِّ الأداء الصوتي، يتبادر إلى أذهانهم الإعلاناتُ وتقليدُ الأصوات! وهذا اختزالٌ ظالمٌ، فإنَّ لفنان الأداء الصوتي مجالاتٍ شتّى، منها:
تطبيقات الهاتف الذكي، مثل أوامر خرائط Google.
الرواية السينمائية، كأداء محمود ياسين في فيلم الرسالة.
الأفلام الوثائقية، والمحتوى المرئي.
الكتب المسموعة، التي تؤدَّى لتُعاش، لا لتُقرأ فقط.
الرسائل الهاتفية التلقائية.
التقارير الإعلامية، والإعلانات التوعوية.
ألعاب الفيديو، المفعمة بالشخصيات والصوتيات.
أفلام الرسوم المتحركة والدوبلاج، فهما –في رأيي– من صميم هذا الفن، لا على هامشه.
فن الأداء الصوتي فن التسجيل
كثيرٌ من الناس يخلط بين فنّنا والتعليقِ الرياضيِّ أو عملِ المذيعينَ، والحقيقة أن الأداءَ الصوتيَّ ليس بثًّا مباشرًا، بل هو فنّ التسجيل والإتقان المسبق، ولا يكفي فيه مجردُ الصوتِ الجميل.
المؤدي يُحيي النص
إنَّ فنانَ الأداء الصوتيّ لا ينقل المعنى وحسب، بل ينفخُ الروحَ في الكلماتِ، لتصل إلى القلوب. ولذلك، وجب عليه أن يلتزمَ بقواعدِ هذا الفنِّ الذهبيّة، والتي نبدأ الحديث عنها تفصيلًا في المقالة القادمة بإذن الله.