العربية بين التجهيل والتعليم
عاصم السيد
يذكر ابن منظور في معجمه الخالد “لسان العرب” أن اللُّغة اللِّسْن، وحَدُّها أَنها أَصوات يُعبِّر بها كل قوم عن أَغراضِهم، فإذا أراد إنسان أن يتعلّم أصواتًا، فلا طريق إلى ذلك إلا بجهازين ربّانيين حباهما الله الإنسانَ، وهما جهازا السمع والنطق، فبهما تُتَعلّم الأصوات لا بغيرهما، وبِهما إذًا تُتعلم اللغات، فهل نتعلّم حقًّا اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا؟ وهل ينبغي أن يكون الأساس الراسخ الذي تُبنى عليه اللغة في قلوب النشء العربيّ قوامه حفظ قواعد النحو والصرف؟
في إحدى التجمّعات المباركة، جلس الحاضرون يتدارسون الزَّمن في اللغة العربية، يحاضرهم أستاذ جامعي، يحدّثهم عن عبقرية اللغة العربية في التعبير عن الزمن، فإذا بمتسائل يقول أنه يعمل بالمناهج، يطرح أزمة يعيشها، إذ كيف له أن يعلّم الطلاب هذا الكم الهائل من القواعد، وطلاب اليوم لا يعرفون الأمر من المضارع من الماضي، مصرّحًا بأننا في حاجة إلى التبسيط، وكأن التبسيط لديه أن يحذف من قواعد العربية ما يظهر على طلابنا صعوبته، فجال في خاطري إن سرنا في طريق التبسيط المزعوم ذاك، فما يبقى من العربية، فقد صَعُب على الطلاب أن ينطقوا جملة عربية صحيحة! وعلى هذا النهج فإن الغد القادم لا مكان فيه لدراسة اللغة العربية على الإطلاق.
إنها مصيبة كبرى أن العقول العربية تفكر في لغتها بهذا الشكل، أبَلَغَت اللغة العربية حقًّا في قلوبنا هذه المكانة المهينة، وهي لغة اصطفاها الله على سائر اللغات، لغة القرآن ولغة النبي العدنان عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وهي اللغة التي وسِعَت علوم الطب والهندسة والفلك، وعلوم الإنسان من فلسفة واجتماع، إن من ينكر فضل ابن سينا وابن الهيثم ومريم الاسطرلابية والخوارزمي وعباس بن فرناس وابن رشد -وقد كتبوا بالعربية- على ما وصلت إليه العلوم اليوم من تقدّم فما هو إلا ممارٍ بلا حُجّة، إنه كمن ينكر فضل نيوتن على الفيزياء والرياضيات. إنها كارثة لا تعدلها كارثة أن يفكر في اللغة العربية هكذا من يعمل على تطوير المناهج، وما العيب يا سيدي في اللغة العربية على الإطلاق، إنما العيب في طرق التدريس، التي تحشر المعلومات في عقول النشء حشرًا، العيب يا سيدي في ذلك المحتوى العجيب الذي نعرضه للطلاب فيكرهون العربية، والله إن العربية لغة تُحبّ، بل تُعشق، فهي لغة الجمال والبهاء، وهي لغة المجاز، فعند العربي الطود قوة، القمر بهاء وضياء، والوردة رقة، فلِمَ نقبّح لغتنا الجميلة في عيون أبنائها؟ حتى صاروا لها عاقّين، وإن نشئًا لا يعتز بلغته التي هي هُويته لا يُنتظر منه مستقبل ناهض مشرق. هل في مدارسنا ومناهجنا فصول للاستماع؟ هل يتحدث الطلّاب باللغة العربية في مدارسهم؟ إن الإجابة المخزية هي لا، فكيف إذًا كيف تتوقعون أن يتعلم اللغة العربية طالب؟ إنما تَعَلُّمُ اللغاتِ يقوم على مهارات أساسة أربع، الاستماع والتحدّث والقراءة والكتابة، فأين مناهجنا من هذه المهارات؟ إن التعليم العربي يقتل التفكير والذوق السليم، بما يفرضه من حفظ بلا غاية سوى تحصيل الدرجات، فصار الطلاب في المدارس يجرون وراء الدرجة كالناس يجرون وراء لقمة العيش. ليس المسوؤل فقط عن تعليم العربية وزارة التربية والتعليم، بل كل من يُفترض به أن يتحدث بالعربية أو يكتب بها، وعلى رأس هؤلاء العاملون بالإعلام، الذين قلّ حظّهم من اللغة العربية حتى كادت تتلاشى من صدورهم، هؤلاء الذين اشتكت منهم العربية ألمًا وحسرة بكلمات شاعر النيل إذ يقول:
أَرى كُلَّ يَومٍ بِالجَرائِدِ مَزلَقاً *** مِنَ القَبرِ يُدنيني بِغَيرِ أَناةِ وَأَسمَعُ لِلكُتّابِ في مِصرَ ضَجَّةً *** فَأَعلَمُ أَنَّ الصائِحينَ نُعاتي
إن الإعلام بكل صوره المرئية والمسموعة والمقروءة، ليس فحسب يحافظ على اللغة العربية، بل يضيف لها ويطورها ويسمو بها، واسمع إلى حكاية الصحفي والقطار يحكيها لنا الشاعر فاروق شوشة أمين مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
و إن غصة تصيب القلب حين تشاهد إعلامنا ينفر من لغته العظيمة الكريمة، ومؤسسة الـ BBC البريطانية المنشأ تقول عن اللغة العربية: “اللغة العربية لغة شاملة جامعة يفهمها العربي في أي مكان. ولهذا نحن نستخدم اللغة العربية الفصحى ولا نلجأ الى استخدام اللهجة العامية أبدا. بالتأكيد هناك بعض الكلمات تظهر هنا وهناك عند الضيوف عندما نسألهم و يجيبون في بعض الأحيان باللهجة العامية، هذا ليس من شأننا، لكن الصحفي العامل في بي بي سي يكتب ويذيع ويقرأ بالفصحى وهي اللغة المفهومة عند العرب جميعا” وأين نحن اليوم من النماذج العربية المشرفة التي خاطبت النشء بعربية فصيحة، تعلمه أحلى اللغات في أثواب الموسيقا والغناء والتمثيل والرسوم المتحركة، في زمن كانت إمكاناتهم التقنية أقل بكثير من تقنيات اليوم، وما أنسى أبدًا برنامج المناهل وغيره من الأمثلة المشرفة في تعليم العربية للنشء.
كم من رؤسائنا العرب يخرج ليتحدث إلينا بعربية فصيحة؟ بل إننا شهدنا في عصرنا رؤساء يدّعون أنهم عرب لكنهم إن أجبرتهم المواقف على التحدث بالعربية تَهتَهوا تَهْتَهَة الأطفال الذين لم يبلغوا سن الكلام، وإننا اليوم نسمع جرائم لغوية فادحة على ألسنة القضاة والمحامين ووكلاء النيابة في المحاكمات المذاعة عبر التلفاز، وقد كانت رسائل الدراسات العليا في زمن غير بعيد تَدْرُس البلاغة في مرافعات المحامين ورسائل القضاة، دوُل الغرب تسن القوانين وتطبقها حفاظًا على لغاتها، فمن لنا برئيس عربي يدافع عن العربية؟
إن رؤساء وقضاة وإعلاميي اليوم، أصحاب الألسنة المعوجة، والتهتهة الفاضحة، ومرتكبي الجرائم اللغوية، هم نتاج أجهزة هدم الإنسان، التي تُسمى زورًا في عهدنا وزارات التربية والتعليم والإعلام، ومن يدّعون أنهم يقدّمون الفن، وهم في الحقيقة به يتاجرون، حتى انحطت ألفاظه، وصارت لغته سافلة سوقية، وأمست غاية الإعلام والفنون تكديس الأموال وتمجيد المستبدين. لقد غرقت سفينتنا، أغرقتها خروق الفساد، التي تنتشر كالصدأ في الحديد، وتجعل منه وهو الصُّلب الصلد مادة هشة متفتتة، وإن الدواء في القضاء على الفساد، لا سبيل للإصلاح في أي مجال والفاسدون على رؤوس السياسة والمال، وإن في بلادنا العربية مصلحون كُثُر ومهرة، وإنما يحتاجون أن يُفسح لهم المجال، ليبني كل في موقعه وتخصصه، إنما يحتاجون دعم الدولة والشعب، وشعوبنا والله ظمآنة للمعرفة، تحتاج شربة من ماء العلم تبل به أحشاء الصّادين، وما هي إلا بعض سنين بإذن الله حتى تعود السفينة للسطح، تشق عُباب المعرفة، تحدوها أشرعة الحرية، تحت سماء العلم والعمل، وتنير الطريق شمس الأمل، لكن لن نرى هذه الصورة البديعة ما دمنا نقبع في ظلام القيد والاستعباد والاستبداد. إن عنادل مؤسسة ناشئة تبغي أن تزيد حظ شبابنا من سماع العربية والتحدث بها، ونحلم بأن نقدم العربية لكم في أبهى حُلَلِها، وهي لغة الجمال كل الجمال، لكن تحارُبنا أبواق التجهيل، وإعلام التوافه، ولسنا وحدنا، لكن المَهمة صعبة المَرْقى، في مواجهة وحوش الاستبداد والمال، وإنّا ماضون في طريقنا بعون الله، مؤمنين بقول الشاعر أبي الصوفي: لا يدركُ المجدَ من لانتْ مآكله*** لا تحسبِ المجدَ تَمْراً أنت آكله لن تبلغَ المجد حَتَّى تَلْعَق الصَّبرا
والله إن أقصى الألم يعتصر القلب، حين أقف مدافعًا عن العربية أمام أبنائها، وهم ليسوا مِمَّن قَبِل سيطرة الاستبداد والمال، ولكنهم تمردوا على هذه السلطة الهدّامة، وأقاموا المشاريع المبدعة، التي تسعى لنشر المعارف والعلوم، لتكون سببًا في إصلاح جيل كاد أن يفسد، لكن عجبًا عندما يكون موضوع النقاش هو اللغة العربية، لا يكون المسعى عودةً إلى هُوية مفتاحُها اللسان العربي، وإنما المَسعى كل المسعى النزول بلغات التواصل إلى ما وصل إليه الجمهور، ونحن –عنادل– نرى المَسْعى أن نرتقي بهذه اللغة، يقول الإمام الشافعي: “من تعلّم القرآن عظُم قدره، ومن تعلم الحديث قَويت حُجّته، ومن تعلّم العربية رقّ طبعه”، إن اللسان المستخدَم يؤثر في النفوس، إن ارتقت الألسنة ارتقت النفوس والقلوب، من هذه اللغة العربية العظيمة نتعلم مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات ومعالي المناقب، يقول الشاعر أبو تمام: وَلَولا خِلالٌ سَنَّها الشِعرُ ما دَرى *** بُغاةُ النَدى مِن أَينَ تُؤتى المَكارِمُ
ما محدُّثُكم والله بشاب درس العربية، ومعرفته بنحوها وصرفها بسيط جدّ بسيط، ولكني أحببتها مذ دقّت أبواب سمعي، ووقفت أمام شعرها ونثرها عاجزًا، في كلماتها العلم والمشاعر والجمال والموسيقا، وأيّ إنسانٍ هذا الذي يقف على هذا الجمال والكمال ولا يُأسر قلبه عشقًا وفخرًا.
إن الحفاظ على اللغة العربية لغةَ علمٍ وفن وجمال، رسالة عالمية، وليست فحسب مقصورة على أهل العربية، فهذا اللسان جاب العالم فنفذ إلى القلوب، في كلمات القرآن، وفصاحة النبي العربيّ اللسان، وأشعار العرب، وبلِسن العربية نطق العلماء والأدباء من غير العرب، أمثال البخاري ومسلم وسيبويه، والرازي وابن سينا والفارابي، وليست العربية لغة معزولة عما حولها من لغات وفنون وعلوم عالمية، وقد تُرجمت إلى لغات العالم، وترجمت كثيرًا من لغات العالم، فبلغت من الكمال ما لم تبلغه لغة، يقول الأستاذ العقاد: “من واجب القارئ العربي -إلى جانب غيرته على لغته- أن يذكر أنه لا يطالب بحماية لسانه ولا مزيد على ذلك، ولكنه مطالب بحماية العالم من خسارة فادحة تصيبه بما يصيب هذه الأداة العالمية من أدوات المنطق الإنساني، بعد أن بلغت مبلغها الرفيع من التطور والكمال”