استمع إلى المقال بصوت الكاتب: عاصم السيد
اللاقطُ الصَّوتِيُّ لا يكذب… فبِمَ تنطقُ حين يُفتح لك المجال؟
في الفصلِ الدراسيِّ أو على شاشةِ التلفاز أو خلفَ كرسيِّ المذيع أو على خشبة المسرح، حين يتكلَّم المعلِّم أو المذيع أو الفنَّان فإنَّ صوتَه لا يَحمِل كلامًا عابرًا مجرَّدًا عن لغته، بل يمثِّلُ قدوةً لُغويَّةً تحملُ هُويَّة أُمَّة، إنَّ مَن يُمسِك باللاقط الصوتيِّ ليحدَّث جموع الجماهير، يقدِّم نموذجًا للُّغة، يُنشِئ لدى السامعين تصوُّرًا عَنِ العربيَّة: نطقٌ سليمٌ أم تعثُّرٌ مُمِلّ؟ آلُّلغة جذّابةٌ سائغة أم صعبةٌ متكلِّفة؟
إنَّنا لا نُبالغ حين نقول: إنّ هؤلاء الثلاثة -المعلِّم والمذيع والفنّان- هم صُنّاع الذائقة اللغويَّة في مجتمعاتنا، بهم تترسَّخ الفُصحى في الأذهان، أو تتراجع وتتلاشى.
لماذا نُحمِّل هؤلاء العبءَ الأثقل؟
لأنَّ العربيَّة لا تُدرَّس في الكتب وحدها، بل تُكتَسَب بالسَّماع والمحاكاة، والتأثُّر بالقدوة، ولأنَّ مَن يتصدَّر الحديث بالعربيَّة لا شكَّ يشكِّل اتجاهات الجمهور نحو لغتهم، إنْ أحسنَ الأداءَ أحبَّه الناس وأحبّوا اللغة، وإن أساءَ إليه نفروا منه ومن لُغته.
ألم تسمعْ مشاهِدًا يقلِّد صوت مذيع أو قارئ نشرة؟ ألم ترَ طالبًا يُردِّد جملةَ مُعلِّمٍ شدّ انتباهه؟ ألم تشاهد طفلًا يحاكي شخصيةَ رسومٍ متحركة فصيحة؟ هذه المشاهد العابرة تقول لنا بصوتٍ عالٍ: إنَّ لسانَ المؤدّي أبلغ من أيِّ معلومةٍ تُحشى في عقل الطالب أو المُشاهد، والقدوة الحيَّة الفصيحة خيرٌ من ألف درس في قواعد اللغة؛ لأنَّ اللغة صَنعة، والصنائع لا تُكتسب بالتعليم النَّظري، وإنما تُكتسب بالممارسة والتَّكرار، وتصويب الغلط.
إذا سمعت محاضراتٍ عن الخياطة وطرائقها وأنواعها، ثم ناولناك خيطًا وإبرة، أتستطيع أن تخيط لنا ثوبًا؟ بل إنَّ السبيل إلى ذلك أن تشاهد الخياط يخيط الثوب مرة وراء مرة، فتحاكيه، وتقع في الغلط فيوجِّهك إلى الصواب، حتى تصيرَ خيّاطًا.
كذلك اللغة، ينبغي أن تطرق الآذان، سبيلها المنابر والفصول الدراسية وخشبات المسارح ومنصات الإعلام، فتحاكيها الألسن كلامًا، قد تقع في اللحن أحيانًا، فتصوِّبه القدوات اللغوية؛ الأم في البيت، والمعلِّم في الفصل، والمذيع في النشرة، والخطيب على المنبر، والفنان على المسرح، والقاضي والمحامي في المحكمة.
حينئذٍ يمتلك الإنسان ناصية لغته، ويتقن صنعتها، وتصير جزءًا من تكوينه، ومركوزًا في طبيعته، فيسهل عليه قراءتها، والكتابة بها؛ لأنَّ أذنه صارت تنبو عن غير الفصيح، ولسانه ينبذُ اللحنَ، فإذا قرأ قرأ بأذنَيْهِ، وإذا كَتَبَ كَتَبَ بلسانه.
صوتُ المعلِّم… بين القلب والعقل
حين يدخل المُعلِّمُ الصفَّ متحدِّثًا بصوتٍ مهزوزٍ مرتبك، لا يحْسِن الأداء نبرًا وتنغيمًا ووقفًا، فإنَّه يُربّي في طلّابه الخوف لا الثقة، ويَسكب الجفاف بدلًا من الحياة، ويوحي لهم أنَّ اللغة جسد لا روحَ فيه ولا جمال، لكنَّه حينَ يملأ الفصلَ صوتًا واضحًا قويًّا عذبًا معبِّرًا، فإنَّه يزرع في طلّابه الذَّوق البيانيَّ، ويروي في أفئدتهم الحِسَّ اللُّغويَّ. اعلم أنَّ التَّلقينَ الجافَّ لا يجاوِزُ الآذان، أمّا التعليم بالقدوة والممارسة، فإنَّه غَرْسٌ في الجَنان.
ألا ترى كيف يعلَقُ في ذهن الطفل أسلوبُ معلمه؟ نبرةُ صوته، وطريقة نُطقه، ومخارج حروفه؟ فإنْ تعلَّم العربيَّة مِن فمٍ سليـم، شبَّ ولسانُه مطواعٌ لها، وإنْ سمع اللحنَ والخطأ والركاكة، شبَّ كارهًا للغةٍ لم يُجِدْها أحدٌ حوله، ومَن يبذرِ الشوكَ يجنِ الجِراح!
المذيعُ… الناطقُ باسم الهُويَّة
كم مستمعٍ لا يعرفُ الفُصحى إلّا مِن التلفاز والمذياع! وكم مشاهدٍ تعلَّم العربيَّة مِن برامجَ أو مسلسلات! إنَّ المذيع ليس مجرَّد ناطقٍ يتجنَّب الغلط ، بل صانعُ ذائقة، ومرآةٌ للُّغة التي يتكلَّم بها، فإن زانَ بالعربيّةِ الجميلة لسانَه، أسر القلوب، وتعوَّدت الآذان الجمال، وإن تكلَّف واستهان باللَّحن، نفرت منه النفوس، واستمرأت الخطأ اللغويَّ القبيح، فكيف نرضى أن يكون اللاقط الصوتيُّ في يدِ مَن لا يُحسن العربيَّة؟
لله درُّ زمنٍ كان فيه الإعراب جمالًا ورفعةً، واللَّحنُ قبحًا وضَعةً، اسمع إلى أمير المؤمنين الفصيح عبد الملك بن مروان -رحمه الله- يقول:
«اللَّحْنُ في الكلام أقبحُ مِن التَّفتيقِ في الثوب، والجُدَرِيِّ في الوجه»،
وقال: «الإعرابُ جمالٌ للوضيع، واللَّحن هُجْنَةٌ على الشَّريف»،
«وقيل له: لقد عَجِلَ عليك الشَّيْبُ يا أميرَ المؤمنينَ، قال: شيَّبني ارتقاءُ المنابر وتَوَقُّعُ اللَّحْن» [العِقد الفريد ٢/ ٣٠٨]
لقد أسرع الشَّيْب إلى رَأْسِه بسبب كَثْرَةِ صعود المنابر، ومخافةِ الغَلَطِ اللُّغَوِيِّ!
أقول: إيّاك أن تَحُولَ خَشيةُ اللَّحْنِ بينَك وبين تحدُّثِ العربيَّة، فإنَّ اللَّحْنَ مَطِيَّتُكَ إلى الصَّواب، ورَكوبَتُكَ إلى الإتقان، إذا جَعَلْتَ للعربيَّة نصيبًا مِن يومك استماعًا وتحدُّثًا.
ومَن نَبَّهك إلى خطأ وقعتَ فيه، فقد مَدَّ لك يدًا، فلْتَجعلْ كلَّ خطأ شَرَرًا يُذكي حماسةَ المُتعلِّم وعزيمته، فقد كان هذا دَيْدَنَ علمائنا وأعلامنا، وعلى رأسهم أئمَّة اللُّغة والنَّحو.
المؤدِّي الصوتيّ… كيف يعلِّم دون أن يُدرِّس؟
إنّ المؤدِّيَ المحترف، الذي يُلقي قصَّةً للأطفال أو يسجِّل وثائقيًّا أو كتابًا صوتيًّا، يُربّي في المستمع ذائقةً لغويّة دون أن يُشعره، يُحبِّب إليه الفصحى ويغرس في قلبه حلاوتها، فإذا أتقن المؤدِّي الإلقاءَ نُطقًا وتلوينًا صوتيًّا، فقد جَمَعَ بين الفنِّ والتعليم.
كم من طفلٍ صار يُردِّد الجُملَ الفصيحةَ من رسومٍ متحرِّكة أو أناشيد! وكم من شابٍّ تعلَّم العربيَّةَ مِن المسلسلات التاريخية والبرامج الفصيحة! إنَّ المؤدِّيَ ليس فنانًا فحسب، بل هو مُعلِّمٌ لا كالمعلِّمين، لا يلقِّنُ المعلومات، بل ينفخ فيها الروح.
ألسِنةٌ تُشكِّلُ الذوقَ وتصنع الذِّكرى
كم مرَّةً سمعتَ صوتًا لا تنساه؟ صوتًا واضحًا رزينًا… فخطر ببالك: “لعلّي يومًا أُتحدَّث كما يَتحدَّثُ هذا الرجل”، هذا هو الأثر، أنْ يُصبح الأداء نموذجًا يُحتذى، وذِكرى باقية.
إنَّ المعلَّم والمذيع والفنّان، متى نطقوا بلغتنا العربيّة الجميلة، رفعوا قدرها في قلوب الناس، ومتى لحنوا وشَوَّهوا جمالها، أشاعوا الكراهية لها دون قصد.
كلمةٌ إلى من يملك اللّاقط الصوتيَّ
أيُّها المعلِّم، أيُّها المذيع، أيُّها الفنّان… اعلم أنَّ في فمك لسانَ أمَّة، وأنَّ صوتك إن أتقن وأخلص، أحيا في قلوب المستمعين حبَّ لغتهم، وهم بها يُحْيونَ أمَّتَهم، وإنْ استمرأ لسان اللَّحن، وصارت لغتك في نفسك أهونَ منظورٍ إليه، نزعت من قلوب المستمعين حبَّها، فهانوا إذ تنهَّدوا قائلينَ وهمًا: “ما أصعب العربيّة!”
اعلمْ أنَّك في حاجةٍ إلى هذا اللَّسان، لا تركنْ إلى تعهُّدِ اللهِ حفظَ كتابِهِ العزيز رُكونَ المتواكلين، بل استنهض الهمَّة، وانهض نهضةَ القويِّ الآخذ بالأسباب، المتوكِّل على رب العباد، وذَرِ الانْصِرافَ عنْ لِسانِنا العربيّ، زيِّنْ لسانَك بالعربية تَزِنْك، واشْدُ بها تَشْدُ بك، وأحيِها تَحْيَهْ!
في المقالة القادمة…
سنتناول التحوُّل المنشود: “مِن العاميَّة إلى الفُصحى… كيف نمهِّد الطريق؟”، ونرسم خُطوات واقعيَّة تُيسِّر هذا الانتقال بسلاسة، مِن غير تكلُّف ولا استعلاء.