أتُعين بيئةُ المدرسة على التحدُّث بالفُصحى؟

أتُعينُ بيئةُ المدرسة على التحدُّث بالفُصحى؟

المدرسة ليست جدرانًا… بل لسانٌ يسمعه النشء

تدقُّ الساعةُ الثامنة، يصطفُّ الطلاب في الطابور الصباحي، يرفعون أيديهم لتحيَّة العَلم، ثم يتقدَّم أحدهم لِيُقدِّم برنامجَ الإذاعة المدرسيَّة أمام زملائه… تُرى بأيِّ لسانٍ يُخاطبهم؟ أتراه يتحدَّث بالفُصحى الواضحة الصحيحة؟ أم ينقل لهم أخبار اليوم بلهجةٍ محليَّةٍ دارجةٍ تزاحم لغتنا الجميلة في ميدانها؟

هذا مشهد بسيط في صباح كلِّ مدرسة، لكنَّه كاشف، يخبرنا إن كانت المدرسةُ تعين على التحدُّث بالفُصحى، أم أنَّها –من حيث لا تدري– تُعمِّق اغتراب الطالب عن لغته.

صوتُ المعلِّم… حجر الزاوية

ما المدرسةُ في حقيقتها إلا مجموعةُ مواقفَ ومحادثاتٍ يوميَّة، تُلقى فيها الأوامر والتعليمات، وتُدار فيها النِّقاشات والدروس، وتُحكى فيها القصص، فمَن صاحب الصوت الأعلى حضورًا في هذه البيئة؟ هو المعلِّم.

فإذا نطقَ المعلِّم بالعاميَّة، ردَّد الطالب العاميَّة، وإذا تحدَّث المعلِّم بالفُصحى الواضحة الجميلة، استقام لسانُ الطالب، وارتقى سمعُه، وسمتْ ذائقته.

قيل قديمًا: “الناسُ على دينِ ملوكهم“، ونقول اليوم: “الطلابُ على لسانِ معلِّميهم.

المناهج تُدرَّس بالعربية… ولكن بأي عربيَّة؟

يُظنُّ أنَّ مجرَّد وضع المقررات بالعربيَّة كافٍ لتعزيز اللسان الفصيح، لكنَّ الحقيقة أعمق من ذلك؛ فالكثير من المعلِّمين يشرحون المادة بالعربية، نعم، ولكن ليس بالفُصحى، بل بعامية هجينة، تُفرغ الكلمات من فصاحتها، وتشوِّه التراكيب والأساليب.

بل نجد بعضهم –وهو يشرح درس النحو!– يقول للطلاب: “يعني لو الكلمة دي في أوّل الجملة بنسميها مبتدأ!”… فأنّى للطالب أن يتذوَّق الفصاحة، وهو يرى معلِّمَ اللغةِ العربيَّة أولَ مَن يخالف القواعد التي يشرحُها؟ اعلم أنه لا تُعلَّمُ لغةٌ بغيرها أبدًا.

الفُصحى لا تُربك… بل العاميَّة تُشوِّش!

يعتذرُ بعض المعلِّمين عن التحدُّث بالفُصحى، زاعمًا أنَّها “تُربك الطالب”، وتُشتِّت ذهنه! لكنَّ العكس هو الصحيح، فالعاميَّة هي التي تُربك المعنى، وتُفقِد التعبيرَ الدقَّة والجمال، وتجعل الطالب في تيهٍ مِن المصطلحات والمعاني، وتتحوَّل لغتنا لديه إلى معادلات وطلاسم، لا ارتباطَ بينها وبين معنًى، وكأنَّ نحونا العربي ما عاد هو فرع المعنى!

أترى الطالبَ يفهم أكثر إذا قلت له: “الفاعل هو اللي بيعمل الفعل، أم إذا قلت: “الفاعلُ: هو الاسمُ الذي يُسنَدُ إليه الفعلُ ويُثْبَتُ له، وهو الذي يقع منه الفعل؟

إنَّ المعلِّمَ الذي يشرح قواعد لغتنا العربية بلهجته العامِّية يشوِّه مفاهيمها في ذهن الطالب، ولسان حاله يقول للطالب: هذه القواعد لا فائدةَ لها غير أن تنقُلها على ورقة الامتحان.

أمَّا المعلِّم الذي يزين لسانه بلغتنا الرائعة، لسان حاله يقول للطالب: إليكَ القواعدَ مطبَّقةً في الكلام، وبهذه الحركات التي تتغير على أواخر الكلم، تستبين العَلاقات التي تربُط بينها عندما تضمُّها الجملة.

لِمَ لا يجرِّب المعلِّمون هذه التجربة؟

تحدَّث إلى طلابك بالفُصحى، ولكن لا تُبالغ، اجعل فُصحاك مهذَّبة عفويَّة، ولا تكثر فيها من التراكيب الغريبة أو المحسِّنات المتكلِّفة، ثم انظر كيف يتجاوب طلابك! قد لا يفهمون بعض المفردات في البداية، ولكنك –شيئًا فشيئًا– ستُشيع فيهم روحًا لغويًّا وثّابًا، اجعل درسَ العربيَّة مساحة محادثة وممارسة، إنَّ اللغةَ صَنْعة، ولا تُكتسب الصَّنعة إلا بالممارسة، اسمع إلى عالمنا المسلم الفذِّ ابن خلدون يقول:

«اعلم أنَّ اللُّغاتِ كلَّها ملكاتٌ شبيهة بالصِّناعة؛ إذ هي ملكات في اللِّسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها… والملكات لا تحصل إلّا بتَكرار الأفعال؛ لأنَّ الفعلَ يقع أوَّلًا، وتعود منه للذّات صفة، ثمَّ تتكرَّر فتكون حالًا، ومعنى الحال أنَّها صفة غير راسخة ثمَّ يزيد التَّكرار فتكون ملكة، أي صفة راسخة». (تاريخ ابن خلدون ١/ ٧٦٤)

لقد كانت البرامج التعليمية كـ “المناهل” و”مدينة القواعد” تُقدَّم لغتنا للأطفال في ثوب من جمال ومتعة، ولم تكن تُربكهم أو تثقل على آذانهم الغضَّة! لقد أحبّوها وتعلَّقوا بها، فكيف نصدِّق اليوم أنَّ الطفل لا يحتمل سماع الفُصحى من معلِّمه؟ أليس لساننا العربيُّ هو اللِّسان الذي اصطفاه الله لسانًا لكلامه الخالد إلى يوم الدِّين، إنَّه لسان الرسالة السماويَّةِ الأخيرة التي تهدي الإنسان إلى النَّجاة والفلاح، فكيف تقول إنَّ لسان القرآن العربيِّ المبين ثقيل؟! والله تعالى كرَّر في سورة القمر قوله تعالى: 

﴿وَلَقَدۡ یَسَّرۡنَا ٱلۡقُرۡءَانَ لِلذِّكۡرِ فَهَلۡ مِن ‌مُّدَّكِرࣲ ﴾     [القمر:  ١٧]

وإنَّ تيسير القرآن للذِّكر يقتضي تيسير لُغته.

المطلوب: بيئةٌ لغويةٌ مُتكاملة

ليست المسألة في معجم المعلِّم فقط، بل في كلِّ تفاصيل البيئة المدرسيَّة:

أتُكتَب اللوحات الإرشاديَّة بالفُصحى؟

آلمذيعُ في الإذاعة المدرسية يقرأ بالفُصحى؟

أتتواصل إدارة المدرسة مع الطلاب بلغة سليمة؟

أتُخصَّص مسابقاتٌ للإلقاء والخطابة؟

أيُشَجَّعُ الطلاب على أن يتحدَّثوا عن مشاعرهم وأفكارهم بلغةٍ فصيحة؟

إنَّ هذه الأمور الصغيرة تصنع الفرق، وتمهِّد الطريق، وتزرع في قلب كلِّ طالبٍ لسانًا فصيحًا يخرج من المدرسة، لا يُنكره الناس، ويبدع في مجالات العلوم المختلفة، فإنَّما الأمم بلغاتها، وما تقدَّمتْ أمَّةٌ قطُّ بلغةِ غيرِها.

اللغةُ سلوكٌ لا درسٌ عابر

ينبغي ألّا تُقدَّم الفُصحى كأنَّها مادَّة دراسيّة مجرَّدة عن الحياة، ينبغي أنْ تُجعلَ جزءًا من سلوك الطالب اليومي، فاللغة ليست دروسًا فحسبُ نُلقِّنها، بل لسانٌ نحيا به، إنْ تُحْيِها تَحْيَهْ، فَأَحْيِها على لسانِك، أَحْيِها في قلمك، وإحياؤها يكون بالذبِّ عنها، والاعتزاز الحقُّ بها يكون باستعمالها، وأن لا تعدِلَ عنها إلى غيرها.

ونطرح السؤالَ: أيَكفي درسٌ في الأسبوع ليُنشئ لسانًا حيًّا؟

نداءٌ إلى إدارة المَدرسة

يا مَن تديرُ المدرسة، قف وقفة تأمُّل:

فلتكن الإذاعة المدرسية منبرًا للفصحى، يُشنِّف آذان الطلاب بجميل لغتهم في شتّى الموضوعات.

إذا كانت التوجيهات تُقال بلهجة ممسوخة لا هي عربية ولا هي إنجليزية أو فرنسية، فكيف سيتعلَّم الطالب الاعتزاز بلغته؟

وإذا كانت النشرات والجداول والإعلانات لا تخلو من الأغلاط اللغويَّة، وتُكتب بعربية ركيكة، فبأيِّ لسانٍ سيقرأ الطالب ويكتب؟

إذا كان معلِّم اللغة العربية أول من يقترف في حقِّها الجرائمَ اللغويَّة، فَبِمَنْ يقتدي الطالب؟

فَلْيَكُنْ للمدير موقفٌ لغويٌّ واضح، وَلْيصنع مِن المدرسة العربيَّة بيئة لغويَّة ماتعة، تُسمع فيها لغتنا، ويُتحدَّث بها، ويزين الحرف العربي الباهر حوائطها، ولْيكن المعلِّمُ قدوةً لغويَّة كما هو قدوة في حسن الخلق وطلب العلم.

إلى المعلِّم: أنتَ رسولُ الفُصحى

لستَ موظّفًا يملأ عقول النشْء شرحًا وحسب، أنتَ رسولُ لغتنا الشريفة، لا تُعلِّم الأجيالَ لسان العرب وحسب، إنَّما تعلِّمهم المَجد، وتبني فيهم الحِسَّ البيانِيَّ، والذوقَ اللُّغويَّ، فتصنع مِن كلٍّ منهم الإنسانَ الأفضل.

اختر مِن كلامك أعذبه، ومن ألفاظك أصفاها، ولْيَشدُ لسانك بجميل العربية مع قلبك النقيِّ، فإنَّ المعلِّم الصادق يُنير العقول وحدها، ويُحيي الأرواح أيضًا.

اسمع إلى أمير الشعراء يقول:

قُمْ لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبْجيلا *** ‌كادَ ‌المُعَلِّمُ ‌أَنْ ‌يَكونَ ‌رَسُولا
أَعَلِمْتَ أَشْرَفَ أوَ أَجَلَّ مِنَ الذي *** يَبْني وَيُنْشِئُ أَنْفُسًا وَعُقُولا؟
وَإذا المُعَلِّمُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا مَشى *** روحُ العَدالَةِ في الشَّبابِ ضَئيلا

خاتمة: لغتنا تُعلِّمنا أن نكون أنفسنا

إذا كان التحدُّث بالفُصحى في المدرسة العربيَّة غريبًا، فالخلل في البيئة، لا في اللُّغة، بل إنَّ العجب العُجاب أن يتحدَّث العربيُّ في المدرسة العربية في البلد العربي باللغة الأعجمية! والفُصحى لن تزدهر في قلب الطالب حتى تُصبح عادةً يوميَّة في أرجاء مدرسته، حيث يَسْمَعُ ويُسْمِعُ.

في المقالة القادمة، سنتقدَم خطوة أخرى، ونسأل: ما دور الإعلام في بناء الفصاحة؟ أيمكن للمِنصات الحديثة أن تخدُم الفُصحى؟

فكرتين عن“أتُعينُ بيئةُ المدرسة على التحدُّث بالفُصحى؟”

  1. Pingback: لُغةُ المعلم... مفتاحُ الفَصل ومفتاحُ القلب! | كيف تؤثّر لغة المعلِّم في لسان الطالب؟

  2. د. أحمد جمال الدين القاضي

    إذا ما قال أحد المتشيعين للعربية الفصحى في معرض الحث على استعمالها : إن (اللغة هوية الأمة) ، لكان رد أحد الرافضين لاستعمال الفصحى المتشيعين لعزلتها :
    أوليست العامية تثبت لي ولأمتي هويةً مغايرةً لهويات الآخرين ؟!
    لذلك فإنه يجب أن تصحح هذه العبارة إلى (اللغة هوية أمة ذات حضارة وتاريخ) .
    إذ ليس المراد بهوية الأمة مجرد التباين عن هويات الأمم الأخرى ، بلهجات تقطعنا عن الاتصال بحضارتنا التليدة دينا وعلما ، وتغمض علينا تاريخنا الذي تُسْتَقَى منه العزة التي تدفعنا إلى استئناف هذه الحضارة ، والائتساء بأصحابها الأوائل .
    أقول : ليس مجرد التمايز هو المراد بالهوية اللغوية ، وإنما المراد هو التميز بهوية لغة ذات حضارة وتاريخ ، يذكر النشء بحضارتهم وتاريخهم ، ويستحثهم على أن يكونوا امتدادًا لهما .
    وكأن المتكلم بها يقول حالُه لسامعيه : (أنا ابن هذه الحضارة ، ووريث ذلك التاريخ) ، أجترُّ وأنا بين ظهرانيكم حضارة وتاريخ ضاربين بجذورهما في أعماق الوجود ، وحتمًا ستشبه الفروع الأصول .

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *