طرق طبيعية في تعليم الفصحى للأطفال
كثيرًا ما نربُط تعليمَ اللغةِ بأسلوبٍ واحد: الدرسِ النظاميِّ داخل الصف، بكتابٍ ومعلِّمٍ وأسئلةٍ تقليديَّة، لكن آللُّغةُ محصورةٌ في درسٍ؟ ألا تُتعلَّم إلّا إنْ خُصِّصَ لها وقتٌ رسميٌّ؟ إنَّ في واقعنا ما يُثبت العكس.
اللغةُ روحٌ حَيٌّ، وعَبَقٌ يُسْتنشَق، لا مادة تُحفَظ.
الفُصحى لا تحتاج أن نُدرِّسَها كما نُدرِّس المعادلات، بل تحتاج إلى أنْ نُحْيِيها كما نُحيي النَّفَسَ في الجسد. إنَّ تعليم الفصحى للأطفال يحتاج إلى بيئة تُحبّب اللغة، الطفلُ يتعلَّم لغته الأمَّ بلا كتاب، وبلا قواعد؛ بأنْ يعيش في بيئةٍ تُحادثه وتُصغي إليه وتردُّ عليه، فلماذا لا نَجعل الفُصحى جزءًا من بيئته؟ نُحادثه بها، نُسمعه أناشيدها، نَروي له قصصها، نُضحكه بطُرفها الظَّريفة الشّائقة، ونُناجيه بها ساعة النوم.
ليس التعلُّمُ والتَّعليمُ محصورًا في قاعة الدَّرس ودفتر الواجب، إنَّ التعلُّم والتَّعليم عملية مستمرَّة في كلِّ وقتٍ وكلِّ مكان.
اجعل لُغتَنا مألوفةً، لا مفروضة
إذا أردتَ أن تُحبَّب الفُصحى إلى أولادك، فلا تُقدِّمها في ثوب الجِدِّ الصارم دائمًا، لِتزْرعْها بذورًا في قلوبهم في أوقات الفرح، لا عند الامتحان فقط، اخترْ كلماتٍ فصيحة تُدلِّل بها صغيرك: “يا حبيبي”، “يا بُنيَّ”، “أحبُّك كثيرًا”، “أسعدتَّ قلبي”، قلْها بالفُصحى، وبصوتك الحنون.
اجعلها جزءًا مِن الحياة، لا سلاحًا للتصحيح
من الخطأ أن يكون أوَّل ما يسمعه الطفل من الفُصحى هو: “هذا خطأ، قلْ كذا!”، اجعلْ أولى تجاربه معها جميلةً، ترتبط بالضحكة، أو الحِضْن، أو الذكريات الطيِّبة، وحين يخطئ لاحقًا، ابتسم، وشاركه الصواب من غير تأنيب.
القرآن خيرُ معلِّمٍ
ما تعلَّم الناسُ الفُصحى مثلَ تعلُّمهم إيّاها بسماع القرآن الكريم وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، فهو النصُّ الذي كَمُلَتْ فصاحته، وعَلَتْ بلاغتُه، غَذِّ به قلبك، ينبتْ أثرُه على لِسانك.
وعجبًا وَصَف الوليد بن المغيرة -وهو كافر- القرآن وصفًا فريدًا:
«وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ»[1].
فاجعلْ لولدك وِردًا يوميًّا من التلاوة والاستماع، يُغنيه ذلك عن كثيرٍ من الدروس النحويَّة الجافة.
حفِّز ولا تُلزِمْ، أرشِدْ ولا تُحرِجْ
حين ترى ولدك يُعبِّر بالفُصحى عمّا في نفسِه في موقفٍ ما، ولو كان خطابه ناقصًا أو مُتكلَّفًا، فأثنِ عليه، وشُجِّعه، وساعده وأسعِدْه، لا تكن كَمن يُطفئ أوَّلَ شمعةٍ بحجَّة أنَّها لا تُنير ما يكفي، بل حفِّزه ليُشعل بعدها ثانيةً وثالثة، حتى يستضيء بها ويُضيء. من طرق تعليم الفصحى للأطفال أن نستبدل التشجيع بالتصحيح، والمشاركة بالمراقبة.
وتذكَّر: مَن أحبَّ شيئًا أكثرَ منه، ومن أكثرَ من شيءٍ أتقنه، ومن داوَم عليه ملكه.
واعلمْ أنَّ الفُصحى لمن يُحبُّها، لا لمن يُكرَهُ عليها.
لغةٌ تُكتَسب لا تُفْرَض
كلُّ موقفٍ في البيت أو المدرسة هو فرصةٌ لغويَّة: في اللعب، في النُّزهة، في السؤال، في الحكاية، في الضحك، لا تنتظر درس “اللغة العربيَّة” لتتحدَّث بالعربيَّة! بل استغلَّ كلَّ دقيقةٍ لتجعل فصاحتك طبعًا وسجيَّةً، لا تكلُّفًا، ومَيْلًا فطريًّا، لا فرضًا.
ليستْ الفَصاحةُ أنْ تحفظَ القواعدَ عن ظهر قلب، ولكنَّ الفصاحةَ الحقَّةَ أن تنفذَ إلى قلوب السَّامعينَ بقولٍ واضحٍ جَميلٍ مُحبوب.
فكُن أنتَ ذلك السامع والمُربِّي، تُعين ولا تُثقل، وتُقرِّب ولا تُنَفِّر.
__
في المقالة القادمة، سنسير إلى المدرسة، ونطرح السؤال المُلحَّ: هل لغةُ المعلِّم تُؤثِّر في لسان الطالب؟ وكيف؟
[1] المستدرك على الصحيحين للحاكم – ط العلمية 2/ 550
Pingback: تعليم الفصحى للأطفال | متى أقول لابني: تكلَّمْ بالفُصحى؟