حين نُلقي نظرةً على الطِّفل، نجد أنّه لا يتعلَّمُ النُّطقَ بالكلمات إلّا بعد أن يمكثَ زمنًا طويلًا يُصغي إلى مَن حوله، يُحاوِل تقليد نبراتهم، وتشكيل أصواتهم، فالمهارة التي تَسبقُ التحدُّث هي دائمًا: السَّماع، وهكذا الأمر مع الفُصحى، لا يُمكن أن نتقنها في أحاديثنا اليوميَّة ما لم نُعطِ آذاننا فُرصةً كي تألفَها، وتستوعب إيقاعها، وتنسجم مع أنغامها.
السَّماعُ… بوابةُ اللِّسان
إنَّ أوَّل خُطوة في تفعيل الفُصحى في حياتك هي أن تُحسِن الاستماع لها، استمع إلى مَن يُجيد التحدُّث بها في الإذاعة، أو في البرامج الوثائقيَّة، أو في المحاضرات أو المجالس العامّة، دَع أُذنك تتشرّب النَّغمة، وتتعرَّف الصِّيَغ الصحيحة، وتكتسب شعورًا داخليًّا باللُّغة، دون الحاجة إلى تَرجمة أو تفكير.
ومن أعظم الوسائل في هذا الباب: القرآن الكريم، أعلى كلام، لا يعروه نقص، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا تنبو عنه أذن، ولا يضيق به ذوق، حتى إنَّ الوليد بين المغيرة وهو كافر وصفه قائلًا:
«والله إنَّ لقوله حلاوة، وإنَّ عليه طلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو ولا يُعلى»
فسماع القرآن الكريم تدريبٌ لغويٌّ غير مباشر، يُنعش الذَّوق ويُغذّي السَّليقة.
التَّكرار يُنشئ الإتقان
في كلّ مرّة تسمع فيها عبارة فُصحى، عقلك يَخزُنها، ولسانك يستعدُّ لتكرارها يومًا ما، تمامًا كما قال أحد الأعراب:
ولستُ بنحويٍّ يَلوكُ لسانَهُ *** ولكنْ سَليقيٌّ أقولُ فأُعْرِبُ
ولذلك، حين تسمع: “أين تذهبُ؟”، ستجد نفسك -بعد مدّة- تقولها دون أن تُفكِّر: هل أقول “وين رايح؟” أم “أين تذهبُ؟”! السَّماعُ يُقلِّل العبءَ العقليَّ في التَّكلُّم، ويجعل اللُّغة تنساب مِن فيك كما تنساب الألحان.
لا تُرِد الكمال… بل البداية
كثيرون يتوقّفون عن مُحاولة التحدُّث بالفُصحى لأنّهم يُريدون البدء من القِمّة! فيبحث عن العبارة البليغة، والكلمة النادرة، ويتردَّد إن نسيَ قاعدة أو أخطأ في إعراب، والحقيقة أنّ الفُصحى ليست امتحانًا في القواعد، بل هي وسيلة تواصُل. خُذْ منها ما استطعت، وتكلَّم بها بما تَعرف، ثمّ تَعلَّم ما جهلت، وأصلِح ما أخطأت، قال زهير بن أبي سُلمى:
لِسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فُؤادُهُ *** فلم يَبقَ إلّا صورةُ اللَّحمِ والدَّمِ
أنتَ تَصنَعُ بيئتَك
يقولون إنّ البيئة تصنعُ الإنسان، ولكنّ الإنسان أيضًا هو مَن يصنع بيئتَه، فإذا أردت أن تُتقن الفُصحى، اصنع لنفسك بيئة تُعينك عليها.
ابدأ تبديلَ ما تستمع إليه، ولو شيئًا يسيرًا كلَّ يوم: آيةٌ مرتَّلة، فقرة إذاعيّة بالفُصحى، قصة قصيرة تُروى بالفُصحى للأطفال، ثمّ جرِّب أن تُكرِّر بصوتك بعض العبارات التي سمعتَها، كأنك تحاكي المتحدّث، بعد ذلك، وسِّع دائرتك لتشمل قراءةً بصوتٍ عالٍ، أو سردًا يوميًّا بسيطًا بلغةٍ سليمة.
ولا تنسَ أن تُشركَ أبناءك أو طلّابك في هذه البيئة؛ تحدَّث معهم بجُملٍ فصيحة، دون تكلَّف، وكرِّرها إن لم تُفهم، واعلم أنَّ البيئة لا تُخلق في يوم، ولكنّها تبدأ بلحظة وعي.
لا تكتفِ بالسَّماع…
لقد فتحنا بابَ السَّماع لأنّه الخطوة الأُولى، ولكنّ الأُذن وحدها لا تكفي. فمتى آنَ أوانُ الممارسة؟ ومتى نقول للمتعلّم: الآن، تكلَّمْ بالفُصحى!؟
هذا ما سنُجيب عنه في المقالة القادمة:
السلام عليكم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جميل جدا شيخنا المحترم ونحن نشتاق إلى مزيد مثل هذا المنشور القيم وجزاكم الله خير الجزاء
بوركت جهودكم أستاذنا المكرم..
مقال رائع..جزاكم الله خيرا
Pingback: حين تتحدَّث العربية... تتحدَّث هويتك - عَنَادِل
أوجزتم وأفدتم؛ جزاكم الله خير ما يجزي معلما عن متعلم
جزاكم الله خيرا 🤲