في زمنٍ كثرتْ فيه الألسن، وتشعَّبت فيه اللغات، وضاعت فيه الهُويّات بين دهاليز التقليد والانبهار، تبقى اللغة العربية الفصحى ركيزة من ركائز وجودنا، وعصبًا نابضًا مِن أعصاب هُويَّتنا، ليست اللُّغة مجرَّد أداة تواصُل، بل هي تجلٍّ عميق للذات، وانعكاس دقيق للثقافة، ومِرآة صافية للفكر والمعتقد.
إنّك حين تتكلَّم العربية، لا تردِّد ألفاظًا ومفردات، بل تُحيي تراثًا، وتُجسِّد تاريخًا، وتستدعي آلاف السنين من الحضارة والمِداد والعلم، أنت لا تنطق فقط، بل تحيا وتصنع المَجد؛ ولذا فإنَّ كلَّ تقصير في استعمال الفصحى، هو خُطوة نحو التنازل عن هذه الهُويَّة المضيئة.
العربية ليست غريبة في دارها
يُخيَّل لبعضهم أنَّ التحدَّث بالعربية الفصحى في الحياة اليومية أمرٌ غير مألوف، أو تصنُّع لا لزوم له! وتلك مغالطة كبيرة، فالعربيةُ الفصحى ليست دخيلةً، بل هي لغة هذه الأرض منذ قرون، بها نزل القرآن الكريم، وبها قُطفت أزهى ثمار الفكر الإنساني في الطب والفلك والفلسفة، فلمَ نرضى أن تكون غريبة في أرضها؟ أليس مِن واجبنا أنْ نُحْيِيَها، ونعيدَ لها مكانتها في البيت والشارع والمدرسة؟
الفصحى والتربية: مسؤولية تبدأ من الصغر
إنَّ غرس الفصحى في نفس الطفل لا يكون بكتابٍ فحسب، بل بموقف، وبكلمةٍ تُقال، وبقدوةٍ تُرى، حين يسمع الطفل أباه يتحدَّث الفصحى، ومعلِّمَه يشرح بها، وصديقَه يستعملها في لعبةٍ أو حوار، فإنَّها تُصبح مألوفة لديه، لا تحتاج إلى قواميس لتفسيرها، بل إلى قلبٍ يُحبُّها وأذنٍ تعتادها.
في المدارس يمكن للفصحى أنْ تحيا في الإذاعة، وفي الألعاب، وفي المجلات الحائطية، وفي أنشطة المسرح، المهم أن نُخرجها من صفحات الكتب إلى نبض الحياة.
الفصحى والانتماء
كلُّ أمَّةٍ اعتزَّت بلغتها، اعتزَّت بوجودها، فانظر إلى الأمم الكبرى، تجد اللغة خطَّ الدفاع الأول في وجه الذوبان والانصهار، ونحن إذا أردنا أن نُربِّي أبناءنا على الثقة، فعلينا أن نُربِّيهم على الفصحى، لأنَّها تمنحهم الانتماء، وتغرس فيهم الافتخار، وتُعلِّمهم أنَّهم يحملون لغةً مِن أقدس اللغات، لغة اختارها الله لِوَحْيِهِ، ولغة نطق بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فغيَّر وجه التاريخ.
إلى أين نمضي؟
إنَّ طريق إحياء العربية الفصحى طويل، لكنَّه ليس مستحيلًا، ويبدأ بخطوة بسيطة: أن نتحدَّث بها.
ولعلَّ أوَّل ما نحتاج إليه هو أن نُغيِّر نظرتنا إليها، فلا تنظر إليها بوصفها “مادّة دراسية”، فإنَّما هي أسلوب حياة.
كيف نجعل مِن الفصحى عادةً يومية؟ وكيف نُمارسها دون تكلُّف أو تصنُّع؟
هذا ما سنكشفه في المقالة القادمة: تكلَّم بالفصحى دون أن تشعر… خطوات نحو لسانٍ حيٍّ.
موضوع هام التمسك بلغتنا الأم لغة القرآن ولغة أهل الجنة بارك الله فيك ونفع بعلمك وجعله الله في ميزان حسناتك