تَكلَّمْ بِالفُصحى يا بُنَيَّ

متى أقول لابني: تكلَّمْ بالفُصحى؟

تعليم الفصحى للأطفال أمر يشغل كثيرًا من الآباء والمُعلِّمين، إذ يسألون: متى أُطالب ابني أن يتحدَّث بالفُصحى؟ ومتى أقول له: لا تَستعمل العامِّيَّة؟

وسؤالهُم وجيه، لأنّنا نريدُ تربيةً طبيعيَّة، لا تَكلُّف فيها، نُريد غرس الفُصحى في القلب، لا فرضَها على اللِّسان فَرضًا.

لكنَّ الجواب ليس زمانًا محدَّدًا بساعةٍ أو يوم، إنَّما هو ثمرة بيئةٍ لغويَّة تُمهِّد للتحدُّث قبل أن تَطلبه، وتُعين عليه قبل أن تُوجبهإنَّ تعليم الفصحى للأطفال لا يكون بالأوامر المباشرة، بل بصنع بيئة لغوية حيّة

قبل أن تقول له: “تكلَّم”… هَيِّئْ له الأرض

إذا أردتَّ مِن ابنك أن يتحدَّث بلغةٍ مُعيَّنة، فَاسْقِهِ تلك اللغةَ أوَّلًا، كيف تنتظر منه أن يَنْطِق بالفُصحى، وأنتَ لم تُسمِعْه إلا العاميَّة؟ أو تَعرض له مِن المقاطع ما لا يَمتُّ إلى الفصاحة بصِلة؟

هيِّئ له ما يُغذّي سَمعه: قِصصًا فصيحة، أناشيدَ جميلة، أحاديث بين الأبوين أو المعلِّمينَ بلغةٍ مُهذَّبةٍ عفويَّة، إنّك بذلك تُعِدُّ أرضًا خصبةً للكلام، فإذا طلبتَ إليه التحدَّث حينئذ، كانت استجابته أيسر وأقرب.

لا تَطلُبْ مِنه ما لم تتقنه أنت

أتجرؤ أنْ تقول لابنك: “تكلَّمْ بالفُصحى”، وأنتَ لا تُجيدها؟

بل أتحدَّثتَ أمامه بها يومًا؟ إنَّ الطفل يتعلَّم بالتقليد أكثر مِن التلقين، فإذا رآك تُعبِّر عن مشاعرك، وتُدير حوارك، وتُلقِي نصائحك بلغةٍ سليمة، فستدخل الفُصحى في أعماقه دون أن يشعر.

أرأيتَ كيف يحاكيك في طريقة مشيك وكلامك؟ سيفعل الأمر نفسه مع لُغتك، إن كنتَ مخلصًا لها.

اجعل التدرُّجَ منهجًا

لا تطلب إلى ابنك أنْ يتحدَّث في كلِّ المواضيع بالفُصحى، بل اخترْ أوقاتًا مناسبة، ومواقفَ بسيطة: “صفْ لي يومك”، “تحدَّث عمّا أحببتَ في الرحلة”، “اشرحْ لي فكرةً أعجبتك“…

ومع الوقت، سيعتاد التعبير بالفُصحى دون حاجة إلى تدريب خاص، فإنَّ مَنْ أكثرَ مِنْ شيءٍ عُلِّمَه، ومَنْ داوَمَ على شيءٍ أتقَنَه.

وها هنا مفتاح الفصاحة: الإكثارُ والمداومة، من دون استعجال أو انقطاع.

لا تُصلِح الخطأ فورًا… راقِب وصَحِّح لاحقًا

حين يخطئ ابنك في التحدُّث بالفُصحى، لا تُقاطِعْه لتُصحِّح، فذلك يُربكه ويُشعره بالعجز، دَعْه يُكمِل، ثمَّ كرِّر عبارته الصحيحة بعده، أو أعدْ صياغتها صياغةً أجمل مِن دون أن تُحرجه.

إنَّ التصحيح غير المُباشر ثمارُه أينع وأطْيب؛ لأنَّه يُبقي على حماسه وثقته بنفسه، ويُعطيه فرصة لتعلُّم اللُّغة من دون خَوفٍ من الخطأ، بل يتعلَّمُها رغبةً في الإتقان.

اجعل الفُصحى قريبةً من القلب

لا تقدِّم الفُصحى لولدك كأنَّها لغة الكتب والامتحانات، بل قدِّمها كما هي: لغة الجَمال والبيان، اقرأ له قصيدة تُحرِّك مشاعره، أو حكمة تُنير عقله، أو حديثًا نبويًّا يُزكّي قلبه.

قل له إنَّ لُغتنا هي لغة القرآن الكريم، لغة آبائنا العِظام، لغة العلم والكرامة، وذكِّره بقول شاعر النيل حافظ إبراهيم على لسان لغتنا الجميلة:

وسِعتُ كتابَ اللهِ لَفظًا وغايَةً *** وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ *** وتنسيقِ أسماءٍ لمُخترَعاتِ؟

الفُصحى ليست لغةً جامدة، بلْ وعاء الحضارة، ولسان الحاضر والمستقبل.


والآن، قل له: “تكلَّمْ بالفُصحى…”

إذا بَذلتَ ما سبق، فَقُلها بقلبٍ مطمئن: تكلَّمْ بالفُصحى.

ستعجَب كيف يستجيب، وكيف يَصوغ كلامًا عذبًا، وإنْ أخطأ في بعضه، فما ضاع جُهدٌ بُذِل في محبَّة هذه اللُّغة، ولا خابَ من زرعها في أولاده.

 في المقالة القادمة، سننتقل إلى دور المدرسة، ونسأل: كيف نُعلِّم الفُصحى دون أن نُدرِّسها؟

3 أفكار عن “متى أقول لابني: تكلَّمْ بالفُصحى؟”

  1. Pingback: اِسمعْ ثمّ تَحدَّثْ: كيف تبدأ الحديث بالفُصحى بخُطوات عملية

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *